هل السعادة في التضحية !!
سألته ذات يوم إن كان سعيدا في حياته، أجابني بطيبة قلبه التي عهدتها فيه دوما: ” لقد تجاوزت نقطة اللاعودة منذ أمد بعيد جدا، أنا لا أفكر في الأمر بهذه الطريقة على الإطلاق، كل سعادتي الآن تنحصر في اسعاد من حولي، لا أندم على شيء، لذا نعم، أنا سعيد و الحمد لله”.
لم أرى شخصا مثله أبدا و على الأرجح لن أفعل، أجبرته الحياة مبكرا جدا على التخلي عن أحلامه (ربما كالكثير غيره)، كان في السابعة عشر عندما توفي والده و ترك له أما و أختين ليعتني بهن، اضطر للتوقف عن الدراسة و البدء بالعمل و منذ ذلك الحين أو قبله حتى و هو يعيش من أجل المحيطين به، تزوج و أنشأ عائلة و ملك المال لكنه لم يتغير، مازال ذلك الشخص الذي يعيش من أجل الآخرين.
أبي إنسان ليس كغيره، أبي كائن مجرد من الأنانية، أفنى عمره في سعيه الدائم لإسعادنا، رغم كل التناقضات التي أعيشها في داخلي و جدالي الدائم معه لم أره يغضب أبدا مني أو ينزعج حتى، أبي علمني أن أعبر عن ذاتي و أقول ما يجول في خاطري، علمني ألا أركع أو أنحني لإنسان مهما كانت الظروف، علمني ببساطة أن أكون أنا و أن أفعل دائما ما يسعدني، فقد كان يقول لي ” ضحيت بعمري فداء سعادتكم، كل ما يمكنكم أن تفعلوه من أجلي هو أن تسعدوا”
ربما ستقولون هو ككل أب، و لكن هذا غير صحيح، و أنا لا أتحدث هنا بعيون طفلة صغيرة لم تعرف رجلا آخر و لا أتحدث كذلك بقلبٍ فَقد عزيزا فلا يذكر إلا محاسنه، أبي مازال هنا و أنا أبلغ من العمر ما يكفي لأعرف. أبي يملك قلبا أكبر من الزمان و المكان، خفف عني انكساراتي و حمل معي ألامي و شاركني أكبر أفراحي و لم يجبرني يوما على فعل شيء يعاكس رغبتي و لو قليلا.
كنت كثيرا ما أسأله إن كان سعيدا لأني كنت أرى في لحظات تيهه ومضات ألم في عينه رغم الرضى الذي لا يفارق محياه. لقد كان علي أن أنتبه أكثر، اليوم رأيت أبي منكسرا، سمعت أنين قلبه و همسات ألمه، لم أره هكذا في حياتي، اليوم رأيته مجردا من درعه و نادما، ولو للحظات، على عمر أفناه. لقد اختنق أبي اليوم ولم أستطع أن أخفف عنه ألمه كما كان يفعل معي دائما، لم أستطع أن أفعل له أي شيء. لذا لجأت الى بياض الورق.
في تلك اللحظات لم يسعني إلا أن أتذكر دعاء سيدنا زكريا في أحب الأيات لقلبي في قوله تعالى :”ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) “. لم يكن لي إلا أن اهمس في قلبي لمن يسمعني ليخفف عنه و يرأف بقلبه ولن تكون رحمتي به أكبر من رحمة الله عز و جّل به. فيا ربي و عزتك وجلالك أُلطف به و خذ بيديه و أرضى عنه في الدنيا و الآخرة.