“رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان” خطوة جريئة نحو مفهوم أرقى من حب المرأة الوطن

“رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان” لم تكن خطوة الصحفية والأديبة غادة السمان نحو نشر رسائل الصحفي الحر غسان الكنفاني” لها، إلا بدافع إثبات حقه، كصحفي وفنان أصيل.

“ياسين رفاعية”، “جهاد فاضل” “عيسى بلاطة” “ليلى الحر” جميعها أسماء لا يستهان بقدرها الأدبي والفكري،

وجميعها اجتمعت على أمر واحد، هو أن غادة السمان كانت المرأة الوطن بالنسبة لغسان الكنفاني.

ولقد حيرتنا هذه الرسائل كثيراً في أمرها، فإما أنه يبدِ عشقاً لا حدود له لهذه المرأة التي لا يستطيع تصور العالم دونها، أو أنه ينهرها ويندم على رؤيته لها التي فعلت كل هذا به.

و لكن، إذا كان محتوى هذه الرسائل هو ما بقى بعد رحيل الكنفاني، ونشرته غادة.

فهي دعوة لنتعرف في موقعنا موقع مقالات على محتوى الكتاب المُعنون بـ” رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان” والمُلحق بمقتطفات من آراء نقدية ل220 كاتب وكاتبة.

غسان الكنفاني وغادة السمان

نظرة إلى الإهداء و”محاولة التقديم” في رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان

تقـــــــول:

إلى الذين لم يولدوا بعد،، هذه السطور التي أهداني إياها ذات يوم وطني مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، أهديهم بدوري إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل ..غادة

أما بعد”محاولة الإهداء” فإن غادة توضح في “محاولة المقدمة” التي كتبتها أن “تفي بهد قطعته” كما ذكرت.

وتحكي غادة عن وصفها المفصل لملامح غسان، وكيف أنهما عاشا جنون الحياة “بلا أقنعة” ودون أي خوف، كما تبادلا الرسائل.

كما تقص غادة عن نقاء وشرف هذا الرجل، وكيف أنه أبى إلا العيش بكرامة ونزاهة، ولهذا كان جزاؤه هو الموت.

ومن الأسباب الأخرى التي دفعتها لنشر رسائله هو عدم صدور أي تكريم باسمه،

أو حتى إقبال أي أحد على تخليد اسمه بلأي شكل.

وترى غادة أنه يجب نشر هذ1ه الرسائل وخروجها من الخاص إلى العام،

لأن أنسنة حياة شهيد بطل كغسان لا تتنافي أبدأ مع حياته الثورية، وأدب المقاومة.

وتشير غادة في نهاية المقدمة إلى أن هذه الرسائل كان بعضها من عام 1968 وحتى العام التالي.

كتاب رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان

رسائل غسان الكنفاني إلى غادة السمان

الرسالة الأولى: “رسالة غير مؤرخة-لاأذكر التاريخ، لعلها أول رسالة سطرها لى”

يصرح غسان الكنفاني في هذه الرسالة بحبه لغادة، وبأنه حتى لو رأى ما يعذبه في الغياب عنها،

فإن سلواه الوحيدة ستكون من تلك التفاصيل والأشياء التي جمعتهما سوياً.

ومما قاله لها في هذه الرسالة :

…. إننى أحبك

الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه،

وبدت لي تعاستي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف.

إن قصتنا لا تكتب وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون،

وكنت فخورا بكِ إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي،

وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك، ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيكِ حبات عيني، ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.

إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني، لقد بنينا أشياء كثيرة معاً،

لا يمكن أن تغيبها المسافات، ولا أن تهدمها القطيعة، لأنها بُنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.

الرسالة الثانية : رسالة غير مؤرخة، ولكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) وقبل 29/11/1966 بيوم او اثنين

في هذه الرسالة يصف غسان مشاعراً أكثر دقة تصف حبه لغادة. ومن بعض ما ذكره في هذه الرسالة :

… أفتقدك يا جهنم، ياسماء، يابحر، أفتقدك إلى حد الجنون. إلى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك.

عرفت كثيراً أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي،

تتشبث بي مثلما أنا بك، وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة.

لقد أجلوا المؤتمر إلى 30 ولكنهم سيسفروننا غدا الأحد إلى غزة؛ كي نشترك بمآتم التقسيم. ياللهول.

ويبدو أنه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع، وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل.. إلا إذا فررت وأتيتك عدواً.

الرسالة الثالثة : من غزة في 29 نوفمبر 1966

…أسماء كبيرة وصغير، ولككني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب، موجوداً بينهم أكثر مما كنت أنا.

إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت، وبسعادة المحتضر بعد طول غيمان وعذاب، ولكن أيضاً بذل من طراز صاعق.

ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي.. أما لم أفقد صوابي بك بعد، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنتِ أذكى وأنبل وأجمل.

أرجوكِزز دعيني معك. إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك، وأنا أعرف ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً، ولكنني أعرف أنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟

“إنني لا أستطيع أن أكرهك، ولذلك فأنا أطلب حبك”

الرسالة الرابعة : بتاريخ 20 يناير 1967

…. اليوم فقط كنت متيقنا أنني لن أجد رسالة منك، طوال الأيام الـ17 الماضية، كنت أنقب في كوم البريد مرة في الصباح ومرة في المساء. اليوم فقط نفضت يدي من الأمر كله، ولكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحها. لقد كانت رسالتك فوق الكوم كله، وقالت لي: صباح الخير! أقول لك: دمعت.

ولقد آلمتني رسالتك. ضننت علي بكلمة حارة واحدة واستطعت أن تظلي أسبوعاً أو أكثر دون أن أخطر ببالك. ياللخيبة!

متى سترجعين؟ متى ستكتبين لي حقا؟ متى ستشعرين أنني أستحقك؟ إنني انتظرت، وأنتظر، وأظل أقول لك: خذيني تحت عينيك.

الرسالة الخامسة: بتاريخ 24 يناير 1967

أنت بعد لا تريدين أخذي، تخافين مني أو من نفسك أو من الناس أو من المستقبل لست أدري ولا يعنيني. ما يعنيني أنك لا تريدين أخذي، وأن أصابعك قريبة مني، تحوطني من كل جانب، كأصابع طفل صغير حول نحلة ملونة: تريدها وتخشاها ولا تطلقها ولا تمسكها ولكنها تنبض معها.

أنتِ نبية هذا الظلام الذي أغرقتني أغواره الباردة الموحشة، وأنا لا أحبك فقط ولكنني أؤمن بك مثلما كان الفارس الجاهلي يؤمن بكأس يشربه وهو ينزف حياته، بل لأضعه كما يلي: أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن، والتقي بالله، والصوفي بالغيب. لا كما يؤمن الرجل بالمرأة!

يقولون هذه الأيام في بيروت وربما أماكن أخرى ، أن علاقتنا هي علاقة من طرلاف واحد………… ولكنذلك كله يظل تحت ما أشعره حقا، فأنا أحبك بهذه البساطة والمواصلة التي لا يمكن فهمها في شارع الحمراء، ولا على شفاه التافهين.

إن الحرية لا يمكن أن تكون شيئاً يأتي من الخارج، وأنا الآن طليق إلى أبعد حد، ولكنني حين ألتفت أسمع أصوات السلاسل الغليظة تخش وترن في صدري.

الرسالة السادسة: بتاريخ 31 يناير عام 1967

…. شحطة واحدة فوق نهايات الحروف أعدتِ إلى عالمي المعنى والتوهج، وجلدني الشوق لك وأسرني ذكاؤك الذي أفتقده بمقدار ما أفتقد كفيك وكتفيك.

إنني أتقد مثل كهف مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بترت بحاجبيك. كأنك جعلت منهن رزمة من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة، لا ليس ثمة إلا أنت. ” إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعاً”.

أرى عاطف وكمال غالباً… عاطف جاء أمس ودخل إلى المكتب غاضباً وتشاجر مع كمال؛ لأنه لم يره منذ فترة ثم سألني : أين كنت يوم السبت؟ غادة أرسلت شخصاً وفتشت عليك المكتب والبيت طوال النهار ! ياعاطف العزيز كنت في ابيت وفي المكتب! لا. نعم.

“سيتم في جو عائلي خلال الأسبوع القادم، زفاف الزميل غسان كنفاني على الأديبة المبدعة غادة السمان” … في آخر لحظة اتصل بي زميل من حيفة ما يريد أن يبارك لي ويعاتبني على عدم إخباره، ثم أخذ يركض إلى المطبعة فشال السطرين الهائلين عن الطابعة.. مرت العاصفة وأنا غير مكترث.

غادة السمان بمراحل عمرية مختلفة

الرسالة السابعة: بتاريخ 1 فبراير 1967

مالذي حدث؟ تكتبين لكل الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبت له أو لأمية لم أعد أذكر، وأمس قال لي كمال أنه تلقى رسالة منك، وآخرين! فما الذي حدث!

إنني مريض حقاً، لا أريد أن أشعرك بأي قلق علي( إن كان ذلك ممكنا)، ولكن الغرفة تدور الآن، وكالعادة أحتاج كما أعتقد إلى نوم كثير .

الرسالة الثامنة: بتاريخ 4 فبراير 1967

…..قد أمضيت معظم نهاري في الفراش. كنت في الليلة التي سبقت حولت صدري إلى زجاجة معبأة بالدخان المضغوط، دخنت 6 علب وأمضيت النهار التالي أسعل وأدخن وأسعل وأدخن من جديد.

عبر ذلك كله جئت أنتِ… وفكرت بكِ بهدوء.

بوسعك أن تقتحمي العالم على منقار صقر فماالذي يعجبك في حصان طروادة؟ إنني واثق من شيء واحد: بالنسبة لك الحياة ملحمة انتصار تبدأ من العنق فما فوق…بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام كالرمح. أنت جديرة بذلكم وليس من هو أكثر منك جدارة.

وإذا بدلك شيء في لندن، ونسي ذات يوم اسمي ولون عيني فسيكون ذلك مواز لفقدان الوطن.

الرسالة التاسعة : بتاريخ 3 نيسان 1967

…. أنا أعرف أنك لن تعودي إلى هنا…تقولين لي كم سيكون مستقبل علاقتنا مستقرا.. وكنت أبكي بتلك الدموع المروعة (التي لا تُرى ) مرتين؛ مرة لأنك ستمضين، ومرة لأنك تشكين برأسي.

ياحبيبتي الشقية، ما الذي يبقى؟ ما قيمتي الآن دونك ومانفع هذا الضياع ونفع هذه الغربة؟ لم يكن أمامنا منذ البدء إلا أن نستسلم : للعلاقة أو البتر، ولكننا اخترنا العلاقة بإصرار إنسانين يعرفان ما يريدانه.

خبر اغتيال غسان الكنفاني في الصحف

الرسالة العاشرة: بتاريخ 11 إبريل 1967

أنت في جلدي، وأحسك مثلما أحس فلسطين: ضياعها كارثة بلا أي بديل، وحبي شيء في صلب لحمي ودمي، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال.

لقد صرت عذابي، وكتب علي أن ألجأ مرتين إلى المنفى هاربا، أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب.

أنا مشوش إلى حد العمى، إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية، اشفقي علي أيتها الشقية، فذلك على الأقل شيء يقال.

لا تتحدثي معي بالهاتف، اكتبي لي كثيراً، أنا أحب رسائلك إلى حد التقديس، وسأحتفظ بها جميعاً وذات يوم سأعطيها لك. إنها أيتها الشقية أجمل ما كتبت وأكثرها صدقاً.

الرسالة الحادية عشر: بتاريخ 26 أغسطس 1968

…..أنا وأنت اعتقدنا أن في العمر متسعاً لسعادة أخرى، ولكننا مخطئون، المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض، بذل النسيان والندم راقة فوق راقة.

ماذا أقول لك؟ إن النسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة، ومع ذلك فأنا لن أنساك….

الرسالة الثانية عشر: بتاريخ 27 ديسمبر 1966

… ما الذي حدث؟ تزوجت فجأة، أنت لا تعرفين لماذا بالطبع…..كانت يافائزة بعيدة عني في كل شيء، واحتجت إلى خمس سنوات كبيرة أظل مشغولاً خلالها في ردم الهوة المفتوحة بيننا، وارتكبت مرة أخرى خطأ الاحتيال: فحين عجزت عن ردمها كما ينبغي ردمتها بطفلين.

ثم جاءت غادة. جاءت؟ إن الكلمة الأصح هي: عادت. لقد كانت موجودة في أعماقي. أنا لا أتحدث عن الفترة التي كنت أراها فيها عابرة في ممرات الجامعة قبل عشر سنوات، لا إنني أتحدث عن وجود أكثر تعقيداً من ذلك وأكثر عمقاً.

كانت تحسب أنني أحدثها من البيت ولكني لم أكن هناك، كنت على بعد صرخة واحدة منها، كنت سألت في البيت عما إذا كان أحد قد هتف فقيل لي أن جرس الهاتف دق مرة أو مرتين دون جواب فهتفت لها، وهذا يافائزة ماكانت تريد أن تقوله! هل تتصورين؟ كانت تجهد لتنال أذني كي تصب فيهما اللعنة، ترى ما الذي يذكر هذه الإنسانة بي إلا الذل؟

غسان الكنفاني

ملحق مقتطفات من آراء نقدية في الكتاب

Exit mobile version